قم.. زر أصدقاء والدك .. فإن "الثقافة" خداعة

 قم.. زر أصدقاء والدك .. فإن
بقلم : ذ - عبد الخالق حسين 21 يونيو 2024

ذاك المثقف الذي كان يوما يقبل يد والده التي اخترقتها شقوق الزمان والعرق وكسرة الخبز..
المثقف الذي درس دهرا في الجامعات وقرأ الكلمات والأشياء وديوان العبر.. يجمع بعضه على بعض فجأة؛ ليزور في ايام التشريق اصدقاء والده.. وبعد اداء واجب الزيارة وبكل تواضع؛ يطلب نصيحة أخيرة جامعة من صديق والده قائلا: (اوصني ياعم !!)
فيستجمع الشيخ الكبير الذي بلغ من الكبر عثيا، قواه وروحه وذاكرته وفؤاده، ويلتفت بهدوء ليرمق عيني المثقف بنظرتين بالكاد تبصر لضعف البصر وطول النظر في عاديات ومكر التاريخ، ويسبك "كلمات ليست كالكلمات" بتعبير القصيدة المشهورة؛ ويقول: " كنا في ستينيات ما بعد الاستعمار، أنا ووالدك رحمه الله، في إحدى المعارك ضد السلبيون / الاسبان؛ ونحن على قمة أحد جبال ايت باعمران بإقليم سيدي إيفني؛ قبالة إحدى ثكنات العدو..
وقد صدر القرار من قيادة جيش التحرير بالمباغتة فجرا، حيث يكون جنود العدو بين نائم وثمل بالشرب.. ونكون نحن، قد طردنا الجوع بشرب قليل من "حساء" لا ثاني له.. وقد ركعنا ركعات، وفرغنا من وردنا واستغفارنا.. وعددنا الرصاصات المرصعة بها احزمتنا..
ولكن قبل لحظة الصفر/ الانقضاض؛ جاء الامر بتأجيل العملية!!  أذكر أن والدك غضب غضبا شديدا لم أر مثله وقال متحسرا: (لا حول ولا قوة الا بالله؛ لقد حرمنا ملاقاة سيدنا رسول الله في الجنة).. انتهى متن الحكاية..
إن مثل هذه القصص التي يحكيها لك اصدقاء الوالد، ليست من طبيعة مادة الثقافة او التاريخ او الاجتماعيات او الحوليات او التأريخ الذي يرص نظرياته (المؤرخ فلان المشهود له بتحقيق المخطوطات.. لا وألف لا.. ايها المثقف سلمك الله..
ان الذي يحدثك (راو ثقة) من فوق الجغرافيا الحقيقية وبلسانك الحقيقي ولسان والدك، وفي ايام التشريق؛ وقد فرغ ثوا من ذبح اضحيته التي تغيا بها مغفرة الذنوب والتوبة.. (فلحظة الحكي) هي احدى أصدق اللحظات في تاريخ الرجل.. وفوق هذا؛ فكأنه يوصيك ايها المثقف "وصيته الاخيرة"؛ وصية وداعه للدنيا؛ والتي لا تتحمل التهويل او حب الظهور او المفاخرة.. انها لحظة الابوة التي تعتبر النصيحة دينا و "الدين النصيحة"..
لحظة التأريخ هذه؛ قد يسميها البعض بالرواية الشفهية او التاريخ الشفهي.. 
لكن عند التأمل هذه الكلمات؛ أكبر وأعظم من رواية ومن تاريخ؛ إنها مثل الرؤيا الصادقة؛ رؤيا يوسف.. إنها العين الصافية والمعين الازلي؛ الذي تسبق وجود القلم والورق والكتابة والثقافة.. 
انها الموعظة فوق الجبل في انجيل متى؛ والوصايا العشر فوق جبل طور.. انها (اقرأ) في جبل حيراء.. انها (عرفت فالزم) التي قالها سيدنا رسول الله للصحابي الذي جاء يعرض رؤيا رآها في المنام؛ مضمونها أنه رأى عرش الرحمان ورأى الجنة!! فأجابه النبي: عرفت فالزم.)؛ اي لقد كشفت لك الحقيقة، هذه حقيقة الحقائق اعطيت لك.. ولك حدك. لقد أطلعك الله على الحقيقة انت؛ وانت فقط..
لا يهم ان يكذبك الناس بعدها.. فانت قد رأيت بعين بصيرتك. وتأكدت إنك رأيت.. وانت شاهد على نفسك أنك رأيت. وقد شهد معك عقلك وقلبك وفؤادك.. و (أناك) بتعبير ديكارت. إذا؛ انت متأكد من نفسك التي رأت.. ومتأكد من حضورك عند رؤيتك. فهذه إذا؛ حقيقتك وحدك؛ أعطيت لك ليطمئن قلبك؛ بل انها أم الحقائق..
انها الحقيقة التي نقشت في روحك ولو كذبك كل من حولك. الست انت الرائي وانت الحاضر وانت الشاهد وانت المتلقي؟
إذا؛ كن انت المؤرخ وانت صاحب القلم الذي يحكي الحقيقة الأولى التي لا يملكها غيرك. اخلع نعليك واستمع لما يوحى..
لقد اراد الله ان يستعملك لتكون في مقام (عين الحقيقة) (ما قبل الثقافة) (لحظة قبل برئ القلم) و ( هنيه قبل الأمر بأكتب)..
إن نصيحة صديق الوالد لك؛ ليست من طينة ماهو مكتوب بالسمخ على الورق؛ بل ما هو منقوش في الروح بالبوح والإلهام.. ما أصدق بوح الوالد على الكبر.. وما اثبث النصيحة من على فراش مرض الموت..
تخرج الكلمات تلفها الانوار.. و (نبرة السرد) لا تدرس في معاهد الموسيقى؛ فهي نبرة من خامة روحانية فريدة؛ تقرع السمع.. ترتفع فوق الذبذبات المعروفة في التقاط السمع العادي يستقبل السمع في لحظة نصيحة الوالد لك: "اشارات غامضة" و لمحات خاطفة؛ و آلاف من خطب و كتب و مشاهدات و حكايات (مضغوطة في كلمات قليلة).. تقول و تفصح عن الحقيقة كاملة؛ لكن ( في لمح البصر) ثم تطوى و تحلق في الافق و تختفي!! ..
لتعود اللغة بعدها مباشرة؛ الى حجمها الصغير وغير المبين؛ والذي يحتاج الى المؤرخ ليزيد فيه وينقص، وينقح ويقارن، ليخرج الحقيقة من بين تضارب الروايات وكذا الاهواء والتحريفات..
تنقل اليك (نصيحة صديق الوالد) الشيخ العجوز؛ صبوتها وعنفوانها ودفئها؛ ولنقل طاقتها؛ من الثيمة المندسة فيها؛ ثيمة (التضحية) وحب ملاقاة العدو الذي اهلك الحرث والنسل.. للإشارة "فالحرث والنسل" في هذا السياق هو ما يطلق عليه المثقفون بلغتهم المعاصرة (الوطن) وبلغة الوالد (بلادنا) و (أرضنا).. ولان النصيحة انسابت في ايام التشريق؛ ايام الاضحية والتضحية؛ فان لهذه التيمة تداعيات لا حصر لها عليك.. انها تحيي فيك حقيقة احياء سنة سيدنا رسول الله في تعظيم شعيرة الذبح لله..إنها اكبر من اللحم والشحم و الأكل.. إنها "حياة الرموز " و "رموز الحياة".. فالإنسان أنثروبولوجيا يعيش (بالرموز والطقوس)..
إنها الكلمات عندما تعانق التاريخ الحقيقي للإنسانية؛ تاريخ صراع الحق والباطل؛ و صراع الذين يعلمون و الذين لا يعلمون؛ تاريخ ابي الانبياء سيدنا ابراهيم مع (المجرمين) الذين القوه في النار ليحرقوه !!..
 وإنها الكلمات عندما تعانق حقيقة تاريخك انت.. عندما تذكرك بتاريخ ابيك الحقيقي.. أباك الذي كان مضحيا من أجل "الحقيقة الحقيقية" وليس "الحقيقة الثقافية" التي أفسدها العدو الذي استعمرك.. وقدمها لك لكي ينسيك أن اباك كان يوما يشرب الحساء فوق الجبل؛ ليحرر لك هذا الوطن..
 فاياك ان تنسى زيارة - في ايام التشريق- من يذكرك به..
من قبل ان ينقرض (جيل ابيك) و (حقيقة ابيك).. وتبقى في مواجهة (ثقافتك) التي تبخس الأضحية والتضحية..
أيها المثقف، وكل الناس مثقفون بعضهم هائم بين الكتب وبعضهم هائم في ارض الله. لكن كلهم سيعود يوما؛ 
باحثا عن روح والده أو أثر منه..
فإياك وإياك.. قم.. زر أصدقاء والدك..
 ورحم الله والدينا جميعا.. وجعلنا على عهدهم مضحين.



تعليقات الزوّار

الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي سكوبريس

اترك تعليقا

إقرأ أيضا