طرفاية / 67 عامًا على التحرير.. قصة كفاح أمة

طرفاية / 67 عامًا على التحرير.. قصة كفاح أمة
بقلم: محمد أعزوز 15 أبريل 2025

في الخامس عشر من أبريل، تتجدد في الذاكرة الوطنية المغربية قصة إقليم طرفاية، تلك البقعة العزيزة التي استعادت حريتها قبل سبعة وستين عامًا، لتُسطر صفحة ذهبية في كتاب الوحدة الترابية. 
فما هي الدروس التي نستلهمها اليوم من هذا الحدث التاريخي؟ وكيف يتردد صداه في حاضرنا ومستقبلنا؟ 
إن استرجاع طرفاية لم يكن مجرد محطة عابرة في سجلات التاريخ، بل كان رمزًا شامخًا للصمود والإرادة الصلبة التي تجلت في وجه براثن الاستعمار، وتتويجًا لنضال شعب أبيٍّ تشبث بحقوقه التاريخية والشرعية في أرض أجداده. لقد مثّل هذا الاسترجاع منعطفًا حاسمًا في مسيرة استكمال الاستقلال الوطني وتحقيق الوحدة الترابية المقدسة، ومرآة عاكسة لحنكة القيادة العلوية الرشيدة وبصيرتها النيرة في قيادة الأمة نحو استعادة سيادتها الكاملة على كل شبر من ترابها.
كانت طرفاية، تلك اللؤلؤة الساحلية المتربعة على رأس جوبي المطل على المحيط الأطلسي، ترزح تحت نير الاحتلال الإسباني منذ أواخر القرن التاسع عشر، حيث أطلق عليها المستعمر اسم "فيلا بنس" نسبة إلى العسكري الإسباني فرانسيسكو بنس. لم يكن الاحتلال الإسباني لطرفاية مجرد سيطرة على أرض، بل كان جزءًا من مخطط استعماري بغيض لتقسيم التراب المغربي بين قوى طامعة، جثمت بثقلها على الأراضي المغربية لعقود طويلة، ممزقة وحدته إلى مناطق نفوذ متناثرة. ومع ذلك، ظلت جذور الانتماء للوطن الأم قوية في قلوب أهلها، الذين لم يدخروا وسعًا في التعبير عن رفضهم للوجود الأجنبي، محافظين على جذوة المقاومة التي لم تنطفئ رغم قسوة الظروف.
بعد عودة بطل التحرير، المغفور له محمد الخامس، من منفاه في السادس عشر من نوفمبر 1955، والإعلان التاريخي عن استقلال المغرب في الثامن عشر من الشهر نفسه، انطلقت مرحلة جديدة من النضال الوطني، هدفها الأسمى استكمال تحرير كل شبر مغربي محتل. لقد كان إقليم طرفاية في صدارة الأهداف الاستراتيجية لهذه المرحلة، ليس فقط لموقعه الجغرافي الحيوي، بل لأنه كان يمثل جزءًا أصيلًا من الهوية المغربية المتجذرة في أعماق التاريخ، والتي تجسدت في روابط البيعة الوثيقة التي جمعت على الدوام بين القبائل الصحراوية والعرش العلوي المجيد.
في الخامس والعشرين من فبراير 1958، سطّر التاريخ صفحة أخرى من صفحات العزة والوحدة، حين وقف الملك الهمام محمد الخامس في محاميد الغزلان، محاطًا بوفود من شيوخ وأعيان القبائل الصحراوية الأبية، ليُلقي خطابًا تاريخيًا مدويًا، كان بمثابة إعلان عن بدء مرحلة حاسمة من النضال المقدس لاستعادة الصحراء المغربية. في هذا الخطاب الخالد، أكد جلالته بكل وضوح على الحقوق التاريخية والشرعية الراسخة للمغرب في صحرائه، قائلاً بصدق وعزيمة: "نعلن رسميًا وعلانية، بأننا سنواصل العمل من أجل استرجاع صحرائنا، في إطار احترام حقوقنا التاريخية، وطبقًا لإرادة سكانها." لقد كانت هذه الكلمات بمثابة خارطة طريق سياسية ودبلوماسية حكيمة، عكست رؤية ملكية عميقة الجذور تقوم على التلاحم الوثيق بين العرش والشعب، وألهبت حماس المقاومة الشعبية الباسلة وجيش التحرير الأبيّ في الجنوب، مؤكدة أن قضية الصحراء هي قضية كل المغاربة، وأن استرجاعها هو واجب وطني مقدس.
لم يكن استرجاع إقليم طرفاية مجرد صدفة عابرة، بل كان ثمرة جهود دبلوماسية مضنية ونضال عسكري باسِل قاده جيش التحرير ببسالة منذ عام 1956. فقد شنّت المقاومة المغربية البطلة هجمات متتالية ضد القوات الاستعمارية الغاشمة في الجنوب، مُلحقة بها خسائر فادحة ومُضعفة قبضتها الحديدية على المنطقة. في الوقت ذاته، أظهرت القيادة المغربية الرشيدة، بقيادة الملك محمد الخامس، حنكة سياسية فائقة وبصيرة نافذة في المفاوضات المعقدة مع إسبانيا، مستفيدة بذكاء من السياق الدولي المتغير الذي بدأ يميل نحو دعم حركات التحرر الوطني في مختلف أنحاء العالم.
وفي الخامس عشر من أبريل 1958، تحقق الحلم الوطني المنشود بتوقيع اتفاقية استرجاع طرفاية، التي أعادت هذه البقعة الغالية إلى حضن الوطن الأم تحت السيادة الكاملة للمملكة المغربية. لقد شكّل هذا الحدث انتصارًا معنويًا وسياسيًا عظيمًا، أثبت للعالم أجمع أن إرادة الشعب المغربي الصلبة، المدعومة بحكمة قيادته الرشيدة، قادرة على تحقيق المستحيل. كما كان استرجاع طرفاية بمثابة اللبنة الأولى في صرح استعادة الأقاليم الجنوبية الأخرى، والتي تكللت لاحقًا باسترجاع سيدي إفني عام 1969، والمسيرة الخضراء المظفرة عام 1975، واسترجاع وادي الذهب عام 1979، لتكتمل بذلك فرحة الوحدة الترابية.
تتجاوز أهمية استرجاع طرفاية مجرد استعادة قطعة من الأرض، بل تحمل في طياتها دلالات عميقة ورسائل قوية في سياق الكفاح الوطني المغربي. لقد تجلى أسمى معاني الوحدة الوطنية في هذا الحدث التاريخي، حيث برز التلاحم الوثيق بين العرش العلوي والشعب المغربي قاطبة، وتجلت البيعة الصادقة التي جدّدها شيوخ القبائل الصحراوية الأبية دورًا حاسمًا في تعزيز الشرعية التاريخية والقانونية للمطالب المغربية العادلة. هذه البيعة لم تكن مجرد تقليد عابر، بل كانت تعبيرًا صادقًا عن إرادة حرة في الانتماء إلى كيان وطني موحد وقوي.
 لقد أثبتت القيادة المغربية الرشيدة قدرتها الفائقة على الجمع بين النضال المسلح المشروع والمفاوضات الدبلوماسية الهادئة، مُرسيّة بذلك أسس استراتيجية طويلة الأمد في الدفاع عن الوحدة الترابية للمملكة، مستفيدة من كل السبل المتاحة لتحقيق هذا الهدف النبيل.
كانت طرفاية رمزًا شامخًا للصمود الأسطوري في وجه قوى الاستعمار الغاشمة، ودليلاً قاطعًا على أن التضحيات الجسام التي قدمها المغاربة الأحرار لم تذهب سدى، بل أثمرت تحريرًا وكرامة وعزة للوطن.
في الذكرى السابعة والستين لاسترجاع طرفاية، يتبوأ الإقليم اليوم مكانة مرموقة كأحد الروافد الاقتصادية والثقافية الهامة في الأقاليم الجنوبية المزدهرة. فقد تحولت طرفاية من رمز للنضال المرير إلى مركز تنموي حيوي يحتضن مشاريع كبرى ورائدة، مثل محطة طرفاية لطاقة الرياح، التي تُعد الأكبر من نوعها في القارة الأفريقية، ومرفأ فيكتوريا التاريخي الذي يحمل بين جنباته إرثًا ثقافيًا وتجاريًا عريقًا. كما تظل المدينة شاهدة صامتة على تاريخ غني بالأحداث والشخصيات، حيث ارتبط اسمها بالكاتب والطيار الفرنسي الشهير أنطوان دو سانت إكزوبيري، الذي ألهمته عُزلتها لكتابة رائعته الخالدة "الأمير الصغير".
إن الاحتفال بهذه الذكرى المجيدة ليس مجرد استذكار عابر للماضي، بل هو تأكيد راسخ على الالتزام المستمر بتعزيز الوحدة الترابية المقدسة والدفاع عن السيادة الوطنية الراسخة. ليواصل المغرب مسيرته المباركة نحو تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة في أقاليمه الجنوبية كافة، مؤكدًا للعالم أجمع أن قضية الصحراء المغربية ليست مجرد نزاع سياسي عابر، بل هي مشروع حضاري متكامل يجمع بين عراقة التاريخ وطموحات المستقبل الواعدة.
إن الذكرى السابعة والستين لاسترجاع إقليم طرفاية هي أولا مناسبة للاحتفال بصفحة مشرقة من تاريخنا الوطني، ودعوة صادقة لاستلهام دروس الماضي العظيم في بناء حاضرنا الزاهر ومستقبلنا المشرق. إنها لحظة لتجديد العهد مع قيم المقاومة والتضحية والفداء التي ورثناها عن أجدادنا الأبرار، ولتذكير الأجيال الصاعدة بأن الوطن هو أغلى ما نملك، وأن الحفاظ على وحدته الترابية وسيادته الوطنية هي مسؤولية جماعية وأمانة غالية في أعناقنا جميعًا، متمسكين بثوابتنا الوطنية الراسخة، ومستلهمين من الحكمة من تاريخنا، وسائرين بخطى واثقة على درب التنمية والازدهار والسيادة الكاملة، من أجل مغرب قوي، موحد، ومزدهر.

 



تعليقات الزوّار

الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي سكوبريس

اترك تعليقا

إقرأ أيضا